حينما نتحدث عن التحولات الناجحة للمؤسسات والشركات في العالم لا يمكن أن نتجاوز ذكر مجموعة تاتا الهندية «TATA» التي سجلت أحد أعظم الإنجازات في التحول المؤسسي خلال آخر عقدين من الزمن عبر تبني برنامج التميز المؤسسي كمنهجية في زيادة قدرات المجموعة ورفع فاعلية وكفاءة أداء جميع شركاتها لأكثر من عشرين عام. بدأت رحلة التميز في تاتا عام ١٩٩٢ حينما أعتلى راتان تاتا رئاسة المجموعة وأنشأ جائزة للجودة داخل المجموعة تهدف الى تحسين وتطوير إدارة وقيادة شركات المجموعة بالاعتماد على معايير التميز المؤسسي التي تبنتها المجموعة تحت مسمى “نموذج تاتا لتميز الأعمال” والذي ركز على تطوير أداء القيادات والمدراء عبر قياس وتحسين أنظمة العمل بأستمرار والبحث عن أفضل الممارسات العالمية وتطبيقها بالإضافة الى مقارنة أداء المجموعة مع أداء كبريات الشركات العالمية مثل مجموعة جي أي (GE) الأمريكية ومجموعة سيمنز (Siemens) الألمانية.
أستمرت تاتا بتطبيق نموذج التميز المؤسسي في جميع شركاتها على مدى 20 عام الى أن أصبح التميز جزء لا يتجزأ من عمل وتفكير كل قيادي وكل مدير في كل منشأة من منشآت تاتا الهندية. عندما تنحى راتان تاتا عن رئاسة المجموعة عام 2012 كان مجموع شركات المجموعة قد بلغ 100 شركة 30 منها مدرجة في عدد من البورصات العالمية المختلفة حيث تعمل في عدة قطاعات مختلفة في أكثر من مئة دولة في ستة قارات بعدد موظفين يتجاوز 700 الف موظف من عدة جنسيات مختلفة. أصبحت تاتا أول شركة هندية تتجاوز مبيعاتها الـ 100 مليار دولار, 60% منها تأتي من خارج الهند, وهذا يعني أن تاتا تحولت من مجرد شركة هندية الى مجموعة عالمية ضخمة تنافس أكبر المجموعات العالمية, حيث صنفت شركة تاتا لخدمات الاستشارات (TCS) كثاني أكبر شركة خدمات تقنية معلومات في العالم, واستحوذت شركة تاتا موتورز على عدد من شركات السيارات أشهرها شركة سيارات جاكوار ولاند روفر البريطانية العريقة, وأصبحت شركة تاتا للمشروبات ثاني أكبر شركة في تصنيع وتوزيع الشاهي في العالم, كما صنفت شركة تاتا ستيل كثاني أكبر مصنّع للحديد انتشار في العالم حيث تعمل في خمسين دولة حول العالم. وتمتلك تاتا سلسلة فنادق تاج مهال ( TAJ Mahal) الشهيرة وأحد أفرع شركة الفنادق الهندية الكبيرة والتي تملك أكثر من 170 فندق حول العالم. وتعتبر تاتا المؤسس لشركة طيران الهند (Air India) ومالكة لشركة طيران فيستارا بالشراكة مع شركة الطيران السنغفورية ومالكة كذلك لطيران أير أسيا الهند بالشراكة مع طيران أسيا. كما تفوقت باقي شركات تاتا حيث أصبحت كل شركة من شركات المجموعة متقدمة على منافساتها من الشركات الهندية في القطاع التي تعمل به بفضل منظومة التميز المؤسسي في المجموعة والتي دفعت بالشركات الى النمو والأستدامة عبر التقيم المستمر للأداء غير المالي للمنشأة.
شكل نموذج التميز المؤسسي الذي تبنته مجموعة تاتا منظومة إدارية متكاملة لقيادة المجموعة بشكل ساهم في نموها بأستمرار وتحول المجموعة من 5 مليار دولار عام 1992 الى أكثر من 110 مليار دولار في 2018 (أكثر من 22 ضعف) وبصافي أرباح تجاوز 38 مليار دولار. تعتبر مجموعة تاتا نموذج مثالي لبناء التميز المؤسسي على مستوى القيادات ومستوى التشغيل ومستوى خدمة العملاء ومستوى تطوير وزيادة مشاركة الموظفين. في رحلة تاتا للتميز ركزت قيادة المجموعة على البناء الداخلي قبل التوسع والنمو الخارجي لتتحول للعالمية ببطىء ولكن بثبات حيث أصبحت تاتا علامة تجارية لامعة عالميا وداعمة للأقتصاد الهندي محليا كأكبر شركة توظيف في القارة الهندية. يبقى أن نذكر أن 66% من أسهم أبناء تاتا الخاصة القابضة لمجموعة تاتا العالمية تملكها صناديق خيرية يذهب دخلها في دعم التعليم والصحة ومكافحة الفقر وتحسين حياة البشر في الهند.
ماذا نستفيد من قصة تحول مجموعة تاتا من خلال التميز المؤسسي التي أوصلتها لتصبح واحدة من أكبر وأعرق الشركات في العالم:
1- الشركات العظيمة تقودها قيادات أستثنائية تعمل للمستقبل البعيد لذلك لديها أهداف أكبر وأبعد من مجرد تحقيق أرقام مالية. معظم الشركات الخاصة تركز على مصلحة الملاك والمساهمين بالدرجة الأولى ولكن مجموعة تاتا تأسست على فلسفة الأهتمام والتركيز على أصحاب المصلحة من موظفين ومجتمع ينمو ويزدهر مع نمو المجموعة, فأصبحت تاتا أكبر منشأة خاصة تساهم في خلق الوظائف وتنمية الأقتصاد والمجتمع الهندي اليوم.
2- تحقيق التميز المؤسسي مرتبط بمدى التزام ومشاركة القيادات العليا والمدراء, منظومة التميز مصممة لتطوير أداء القيادات والمدراء قبل الموظفين, والصف القيادي هو أول وأهم فئة تحتاج لتغيير فكرها وطريقة أداءها, فسقف أداء أي منشأة مرتبط بمستوى أداء قيادات تلك المنشأة.
3- قصة تاتا تمثل قصة كفاح وأصرار للوصول للتميز في الأداء ومنافسة أكبر الشركات العالمية حتى أصبحت تلقب بـ جي أي الهند كناية بشركة جي أي (GE) الأمريكية, حيث أستخدمت المجموعة منظومة التميز المؤسسي كمنهجية ثابتة, في حين أن كثير من الشركات تتنقل من منهجية إدارية لأخرى دون ثبات على المستوى القيادي أو الأستراتيجي.
4- بلوغ أعلى درجات التميز المؤسسي لا يأتي خلال سنة أو سنتين بل يحتاج الى رؤية بعيدة المدى وعمل مستمر لسنوات وقد يمتد لعقود. منظومة التميز المؤسسي في تاتا بدأت عام 1992 ومازالت مستمرة الى اليوم حيث أصبح الأبداع والابتكار جزء من قيم وبيئة المجموعة.
5- التميز المؤسسي يعتمد على الجودة بمفهومها الشامل ولا يمكن بلوغ التميز في الأداء بدون تحقيق الجودة على المستوى القيادي والإداري وعلى مستوى أنظمة العمل في المنشأة. إدارة خدمات الجودة في تاتا كانت نواة للتدريب والتطوير والتقييم المستمر لأداء جميع شركات تاتا.
6- الموظفين ليسوا جزء من المشكلة, هم جزء من الحل بل معظم الحل أذا وجدوا التطوير والتمكين وأنظمة العمل التي تسهل أداء أعمالهم بجودة عالية. فمؤشر مشاركة وأرتباط الموظفين من أهم المؤشرات الأولية في منظومة التميز المؤسسي.
7- أخيرا, التميز المؤسسي ليس جائزة أو برنامج تدريبي أو مشروع ينتهي بأنتهاء التنفيذ! التميز المؤسسي هو فكر قيادي وطريقة عمل لنمو وأستدامة المنشأة.
الدكتور محمد حامد العميري
مستشار وباحث ومحكم في الابتكار وتميز الأداء المؤسسي والجودة.
دكتوراه في الهندسة الصناعية وماجستير في إدارة أعمال.
رئيس ومؤسس أنويكس - الابتكار مع التميز
Comments